كتابات

الظلم وآثاره على الضرورات الخمس

الشيخ / محمد معكفي:

إنّ الظلم الواقع على أهل اليمن وممارسات المليشيات الحوثية الظالمة تلحق الضرر بالكليات الكبرى التي جاءت الديانات لحفظها وحمايتها، وهذا ما يؤكده المؤرخ ابن خلدون في كل ظلم مشابهٍ لما هو حاصلٌ في بلادنا؛ حيث يقول: “واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ثبت عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذنٌ بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال”، أما خطورة ظلمهم على الكُلّية الأولى – حفظ الدين- فذلك واضحٌ بيّنٌ من حيث تهديدهم لكل الوسائل المؤدية إلى حفظه وانتشاره، فقد شرع الله من الوسائل ما يتمم به حفظ الدين، ومن ذلك: تعلمه، والعمل به، والدعوة إليه، والحكم به، والجهاد من أجله، ورد ما يخالفه، والصبر على الأذى في سبيل تحقيق ذلك، وهم يحاربون تعلمه وتعليمه ويطاردون حملته، وينشرون الشبهات التي تهدم كيانه، وتزعزع بنيانه.

وأيضًا يُسهمون في هدم هذه الكُلّية من ناحية استخدامهم لسلطان الدين في جميع تصرفاتهم وظلمهم وقهرهم للناس وسفكهم للدماء ونهبهم للأموال وغزوهم للمناطق الخارجة عن سيطرتهم، بل يصوّر أتباعُهم وسدنتهم أنّ محاولة انتقاد أوامر سيدهم ذنبٌ يوجب التوبة، يقول المناضل العزي صالح السنيدار في مذكراته: كنت احتار كثيرًا فيما أراه عيانًا من مظالم الإمام، وأقول في نفسي إن الإمام ظالم، ثم لا ألبث أن أندم ويقشعر بدني وأستغفر الله من هذه الوساوس، لأننا تربينا على أنّ الإمام ظل الله في الأرض، وأنه مفوض من الله ونائب عن رسول الله.

وأما تهديد ظلمهم للكُلِّية الثانية وهي حفظ النفس، فذلك أمرٌ واضحٌ في مسيرتهم الشيطانية منذ نشأتهم، فكم سفكوا من الدماء وأزهقوا من الأرواح على مدى عشرين عامًا.

وأما تهديد ظلمهم للكُلِّية الثالثة وهي حفظ النسل أو العرض؛ فالمتأمل في علم الاجتماع وأسفار التاريخ يجد بوضوح أنّ الظلمة حيثما تمكنوا نشروا الشبهات وأحيوا سلطان الشهوات، ولا يعطون للعامة مالًا إلا أخذوا مقابله شرفهم وكرامتهم، حتى يكون القابض على عرضه كالقابض على الجمر، وحتى يألف الناس الأخلاق الرذيلة وتنشأ عليها أجيال، وقد ذكر الكواكبي في طبائع الاستبداد أنّ المؤرخ الروسي كريسكوا روى: “أن كاترينا شكت كسل رعيتها عن الكسب وقلة تدفق المال إلى خزانتها، فأرشدها شيطانها ومن في حاشيتها إلى حمل النساء على الخلاعة، ففعلت وأحدثت كسوة المراقص، فهبّ الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على ربات الجمال، وفي ظرف خمس سنين؛ تضاعف دخل خزينتها، فاتسع لها مجال الإسراف”، وهكذا المستبدون لا تهمهم الأعراض، إنما يهمهم المال.

وأما تهديد ظلمهم للكُلِّية الرابعة وهي حفظ العقل: فمن المعلوم أنّ الظلم شجرةٌ خبيثة لا تنبت إلا في تربة الجهل وظلمات الخرافة، ولذلك لا يحب الظالم أن يرى وجه عاقل، فتجد الظالم يقرّب الجهال المتملقين، ويحارب العقلاء المتنورين، فلا عجب أن امتلأت سجون المليشيات الحوثية بكل ذي عقل وافر، ولب باهر، فالعقل قبس من نور الله يولد في القلوب عزة، وفي النفوس همة، وفي الأخلاق سموًا، بل إنّ الظلمة في كل عصر يحاربون العلم ويجففون منابعه لأنه زاد العقول، وينشرون الخرافة ليكون الناس لهم عبيدًا؛ ويتخذونهم مطايا لأهوائهم، ولهذا يسعى الاستبداد لكي يستولي على العقول الضعيفة فيفسدها كما يريد، ويتغلب على الأذهان الضئيلة، فيشوش فيها الحقائق والبديهيات كما يهوى، فيكون مثلهم في انقيادهم الأعمى للاستبداد، ومقاومتهم للرشد والإرشاد، مثل تلك الهوام التي تترامى على النار، وكم هي تُغالِب من يريد حجزها عن الهلاك.

وأما تهديد ظلمهم للكُلِّية الخامسة وهي حفظ المال: فهم ينهبون الأموال ويسلبون حقوق الناس تحت مسميات مختلفة، بل أصبحت رؤوس الأموال تترك أماكن سيطرتهم وتهاجر إلى مناطق أخرى، وقد تنبه المؤرخ ابن خلدون إلى ضرر الظلم على الأموال فقال: “اعْلَمْ أنّ العُدْوانَ على النّاسِ في أَموالِهمْ، ذاهِبٌ بآمالِهم في تَحصيلها وَاكتسابِها؛ لِما يَرَوْنَهُ حينَئِذٍ، مِنْ أَنَّ غايتَها ومَصيرَها، انتهابُها مِنْ أَيديِهم، وَإذا ذَهبَتْ آمالُهم في اكْتِسَابِها وَتَحصيلِها، انْقَبَضَت أَيديِهم عَنِ السَّعيِ في ذَلكَ، وَعَلَى قَدْرِ الاعْتِداءِ وَنِسبتِهِ، يكونُ انقباضُ الرَّعايا عَنِ السَّعْيِ في الاكْتِسابِ، فإذا كانَ الاعتداءُ كثيرًا عامًّا في جَميعِ أبوابِ المَعاشِ، كانَ القُعودُ عنِ الكَسْبِ كذلكَ؛ لِذِهابِهِ بالآمالِ جُمْلةً، بِدخولِهِ مِنْ جَميعِ أَبوابِها، وَإِنْ كانَ الاعْتداءُ يَسيرًا، كانَ الانقباضُ عَنِ الكَسْبِ عَلَى نِسْبَتِهِ”، فحاصل ما قاله أنّ الظلم والاعتداء على الناس بجميع معانيهما ومطالبهما قد يؤدي إلى البطالة والتقاعد عن الأعمال؛ فتُهدم بذلك هذه الكُلّية الكبرى وهي حفظ المال وتنميته.

وبهذا يتبين خطر هذه المليشيات على الضرورات الكبرى كلها، ووجوب إزالتها وتخليص اليمنيين من بغيها وظلمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى